1Associate Professor in Criticism and Art, Faculty of Education, University of Khartoum, Sudan
أستاذ مشارك في الأدب و النقد - كلية التربية - جامعة الخرطوم – السودان
2Assistant Professor in Criticism and Art, Faculty of Education, University of Khartoum, Sudan
أستاذ مساعد في الأدب والنقد - كلية التربية - جامعة الخرطوم - السودان
DOI:10.55559/sjaes.v1i04.21 | Received: 07.10.2022 | Accepted: 14.10.2022 | Published: 22.10.2022
ABSTRACT
The paper aimed to study the impact of strife in Khorasan in the poetry of Nasr bin Sayar, the last governor of Khorasan in the era of Banu Umayyah. Naturally, the impact of this strife would overwhelm his poems with the notice of his existence as a center around which events revolve in Khorasan. The study adopted the descriptive approach by collecting Nasr's poetry in the strife from books of translation, biographies, history and literature, analyzing and comparing it with events.
The paper concluded with several results, the most important of which is: Nasr's poetry came in tribal extremism as expected. An extremism for Mudhariya against Yamani, except for some verses praising a Yamani District or a few other verses calling for the renunciation of division and the union of all Arab tribes against their lurking enemy. This strife that Nasr addressed through his political, religious, or tribal poetry eventually led to an end to Umayyad rule.
Nasr's poems were characterized by the fear of the Abbasid revolution and that, if not resolved, it would spread from Khorasan to all parts of the Islami caliphate. It is poetry complete after artistic image, and all his predication were true.
Keywords: The Impact of strife, Nasr bin Sayar
Electronic reference (Cite this article): Abdallah, D. S. I., & Elaleem Ali, D. F. A. A. (2022). The impact of strife in the poetry of Nasr bin Sayar. Sprin Journal of Arabic-English Studies, 1(04), 15–27. https://doi.org/10.55559/sjaes.v1i04.21 Copyright Notice: © 2022 The Author(s). This is an open access article published by Sprin Publisher under the Creative Commons’ Attribution 4.0 International (CC BY 4.0) licence. https://creativecommons.org/licenses/by/4.0/ |
مستخلص:
هدفت الورقة إلى دراسة صدى الفتن في خراسان في شعر نصر بن سيّار آخر عامل لخراسان لعهد بني أمية، وطبيعي أن تكون صدى هذه الفتن طاغية على شعره بحكم وجوده باعتباره مركزاً للأحداث في خراسان، اعتمدت الدراسة المنهج الوصفي وذلك بجمع شعر نصر في الفتن من كتب التراجم والسير، والتاريخ والأدب- لعدم وجود ديوان له- وتحليله، ومطابقته بالأحداث وخلصت الورقة إلى عدة نتائج أهمها: جاء شعر نصر في العصبية القبلية تعصباً للمضرية على اليمانية- كما هو متوقع- خلا أبيات له في إنصاف حيٍّ من اليمانية، وأبيات قليلة أخرى تدعو إلى نبذ الفرقة واتحاد القبائل العربية جميعها ضد عدوها المتربص بها. الفتن التي تناولها شعر نصر بن سيّار كانت فتنا متداخلة سياسية كانت أم دينية أم قبلية أدت في النهاية إلى وضع حدٍّ للحكم الأموي، اتسمت أشعار نصر التي قالها بأخرة بالتحذير من الثورة العباسية، وإنِّها إن لم تحسم سوف تنتشر من خراسان إلى ربوع الخلافة الإسلامية كلها، وهو مليء بالتصاوير الفنية وقد صدقت كل تنبؤاته.
الكلمات المفتاحية: صدى الفتن، نصر بن سيّار
مقدمة:
قامت الدولة الأموية في ظل فتن ضربت بجرانها المسلمين منذ مقتل الخليفة الثالث- عثمان بن عفان رضي الله عنه- وما تلا ذلك من حروبات بين المسلمين طرفٌ أساس فيها الأمويون المطالبون بدم عثمان في البداية ثم تحولوا إلى عدم مبايعة الخليفة الرابع وإعلان معاوية بن أبي سفيان خليفة مناوئاً للإمام عليّ، ثم موقعة صفين، ثمَّ مقتل الإمام علي- كرم الله وجهه- عام 40هـ، وتنازل ابنه الحسن لمعاوية حقناً لدماء المسلمين، وما لبثت الفتن إن استيقظت بعد وفاة معاوية وتحولت الخلافة إلى ملك عضود، بل أضحت العصبية القبلية سياسة شبه رسمية للدولة الأموية لإلهاء العرب عن التفكير في الحكم وشؤونه، فاستمرت الفتن إثر مطالبة البعض بالخلافة وتمرَّد آخرون في وقت لاحق على الخلافة التي كانوا جزءاً منها وفي كلّ الأحوال كانت العصبية القبلية جزعة بين الأطراف المتصارعة، وإذا كانت الدولة طرفاً دائماً في هذه الصراعات، فإن ولاة الأمر قلبوا مفهوم التعصب في البداية خاصة في وسط الدولة (الشام ،والعراق ،والحجاز) باعتمادهم على اليمانية- وهم مضريون- ولكن لم تكن تلك قاعدة يقاس عليها في كل الأحوال فالدولة ممكن أن تترك العصبيتان تعتركان وهي متفرجة لأن صاحبة القوة والرجحان تتقرب بأخرة إلى ولاة الأمر، أو تلعب لعبة التوازن بين العصبيات كما في خراسان لذا جاءت الورقة عن شعر شاعر كان في خضم هذه الفتن والعصبيات لأنه كان والياً لخراسان والتي لم تكن العصبية فيها بين المضربة واليمانية الفتنة الوحيدة بل شهدت فتناً أخرى دينية وسياسية أدت في نهاية المطاف إلى وضع حدٍّ للحكم الأموي كلّه.
هدفت الورقة إلى دراسة صدى الفتن في خراسان في شعر نصر بن سيّار آخر عامل لخراسان في عهد بني أمية، وبدهي أن يكون صدى الفتن على اختلافها قبلية ودينية وسياسية طاغياًعلى شعره لأنه كان يمثل للأحداث بحكم ولايته لذاك الصقع. اعتمدت الدراسة المنهج الوصفي بجمع شعر نصر في الفتن وتحليله وبيان مطابقة ذلك مع الحقائق التاريخية ولأنَ الشاعر لا ديوان مجموع له فقد اعتمد الباحثان على الكتب التاريخية وكتب التراجم والسير والطبقات والأدب لجمع الأشعار التي تفيد الدراسة. وجاءت الورقة بعد المقدمة محتوية على ترجمة وافية للشاعر على قلة المعلومات عنه ثم دلفنا إلى أشعاره المرتبطة بالعصبية القبلية والصراع بين المضرية واليمانية ويدخل في ذلك الفخر بنفسه، ثم فتنة المرجئة وهي فرقة دينية، ثم أخيراً قيام الثورة العباسية والتي كانت قاصمة الظهر لنصر وولايته بل كل الحكم الأموي. ثم ختمت الورقة بخاتمة حوت أهم النتائج وثبت بالمصادر والمراجع التي استقيت منها معلومات البحث.
ترجمة:
لم يختلف أصحاب التراجم والسير كثيراً في أخباره واسمه ولقبه ونسبه لأنه كان مشهوراً "نصر بن سيّار بن رافع بن حرى بن ربيعة"([1]) وفي البيان والتبيين: "هو نصر بن سيّار أحد بني ليث بن ربيعة"([2]). وقد دار الآخرون من أصحاب التراجم في ذات الإطار، وقد اشتهر بولايته لخراسان ورواية الحديث والشعر والخطابة وفصاحة الكلام، وقد تمثل غير واحد بعباراته الموجزة البليغة. قال عنه الجاحظ "صاحب خراسان وهو يعد في أصحاب الولايات والحروب والتدبير وشدة الرأي"([3]). وفي وفيات الأعيان: "كان نصر بن سيّار نائب مروان بن محمد آخر ملوك بني أمية يومئذ بخراسان فكتب إلى مروان يعلمه بظهور أبي مسلم يدعو لبني العباس"([4]). وقال ابن خلِّكان أيضاً: "وكان يوسف بن عمر استعمل على خراسان نصر بن سيّار الليثي، وبقى إلى آخر أيام بني أمية وقضاياه ووقائعه مع أبي مسلم مشهورة. وفيه وفي يوسف يقول سوار بن الأشعَر:
أضحت خراسان بعد الخوف آمنة * من ظلم كلِّ غشوم الحُكم جبّارِ
لما أتى يوسفاً أخبار مـا لقيت * اختار نصراً لها نصرَ بن سيّار([5])
يبدو إن نصراً ولي خراسان لعشر سنوات أو يزيد من أواخر عهد هشام بن عبد الملك حتى عهد مروان بن محمد (نهاية الدولة الأموية). ففي تهذيب الكمال "جاء عهد نصر بن سيّار في رجب سنة أحدى وعشرين ومائة"([6]). وفي سير أعلام النبلاء "نصر بن سيّار الأمير متولي خراسان لمروان الحمار"([7]). وفي الشعر والشعراء: "ولى نصر بن سيّار خراسان سنة (125هـ) ولَّاه إياها الوليد بن يزيد بن عبد الملك"([8]) ولعل ما جاء في الشعر والشعراء مخالفاً لما جاء في جلِّ كتب التراجم التي أرخت لتولية نصر خراسان ومدته التي قضاها في الولاية، إذ تقصر المدة في ست سنوات فقط، وربما كان اشتهاره في السنين الأخيرة لدولة بني أمية حتى وفاته وسقوطها سبب هذا الخلاف لشهرته في ولايته إبان عهد مروان بن محمد آخر خلفاء بني أمية.
كان نصر محدّثاً روى عن التابعين، ففي المؤتلف والمختلف: "روى عن عكرمة عن ابن عباس حديثاً"([9]). "يروى عن عكرمة عن ابن عباس عن النبي صلى الله عليه وسلم: من أنعم على قوم نعمة فكفرها فدعى عليهم استجيب له فيهم: اللهم إني أنعمت على آل بسام فكفروني اللهم أذقهم حرّ السيف. قال فلم يحل عليهم الحول ومنهم عين تطرف"([10]). وفي طبقات المحدّثين: "حدث عن عكرمة وأبي الزبير. وعنه، ابن المبارك- فيما قيل- ومحمد بن الفضل بن عطية"([11]). ومما يتمثل به من أقواله: "من لم يحقد لم يشكر"([12]) وفي عيون الأخبار: "قيل لنصر بن سيّار إن فلاناً لا يكتب. فقال: تلك الزمانة الخفية. وقال: لولا إن عمر بن هبيرة بدوياً ما ضبط عمال العراق وهو لا يكتب"([13]). ومن أقواله كذلك: "كل شيء يبدو صغيراً، ثم يكبر إلا المصيبة ، فإنه تبدو كبيرة ثم تصغر، وكل شيء يرخص إذا كثر، خلا الأدب فإنه إذا كثر غلا"([14]) وقوله أيضاً: "لا تسم غلامك إلا باسم يخف على لسانك"([15]). ومن جميل أقواله: قال أبو الحسن المدائني: "قال نصر بن سيّار، كان عُظماء الترك يقولون: ينبغي أن يكون في القائد العظيم القيادة عشر خصال من أخلاق الحيوان: جرأة الأسد، وختل الذئب، وروغان الثعلب، وحملة الخنزير، وصبر الكلب على الجراحة، وتحنن الدجاجة، وسخاء الديك، وحذر الغُراب، وحراسة الكركي، وهداية الحمام"([16]). كل هذا بجانب أشعاره و التي غلب عليها لوناً واحداً وهو ما نسمية بالشعر السياسي، وهي مبثوثة في كتب التواريخ والتراجم ولم تجمع بعد في ديوان.
وفاته:
توفي نصر بعد أن ظهر عليه أبو مسلم الخراساني بإعلانه الدعوة العباسية ونصب الحرب على مخالفيه، فقاومه نصر بما يستطيع، وكان دائم الكتابة إلى الخليفة ووالي العراقين يزيد بن عمر بن هُبيْرَة طالباً النجدة إلا أن الخليفة والوالي كانا منشغلين بالفتن والحروب الأخرى في الجزيرة الفراتية.
فتقهقر نصر يريد العراق بعد توالي الهزائم عليه من جماعة أبي مسلم فتوفى بساوة في سنة أحدى وثلاثين ومائة([17]). وفي الروض المعطار: "وفي ساوة مات نصر بن سيّار عامل مروان بن محمد على خراسان؛ فإنه لما أدبر الأمر عنه بظهور الدولة العباسية هرب فمات بهذه القرية كمداً"([18]).
الفتن بين القبائل العربية:
اللافت للنظر في عهد بني أمية الصراعات بين القبائل العربية، خاصة الصراع بين المضربة واليمانية، رغم الفتوحات الإسلامية والتوسع الكبير لرقعة الدولة([19]). وقد استأثرت خراسان بنصيب الأسد من هذه الصراعات، ولا شك إن هذه الصراعات العربية- العربية، أضعفت شوكة العرب في الفتوحات ومواجهتها للقوميات الأخرى غير المسلِّمة في فتوحات خراسان وما وراءها وساعدت أيضاً في تنامي قوة دعاة بني العباس في ذاك الصقع. ظهرت صور هذه الفتن والحروب بين القبائل العربية بارزة في شعر نصر بن سيّار ومن ذلك ما قاله عندما كان قائداً لبني تميم في موقعة البروقان يشمت ببني بكر الذين حالفوا الأزد، وعمرو بن مسلم الباهلي رجاء في تحقيق نصر عظيم فجرّهم بل جرّوا أنفسهم إلى معركة خاسرة، متشفيّاً في ذات الوقت بخالد بن عبد الله القسري، لما آل إليه أمره من الحبس على يد يوسف بن عمر الثقفي بالعراق سنة عشرين ومائة([20]).
أرى العين لجّتْ في ابتدارٍ وما الذي |
* |
يرّدُ عليها بالدموع ابتدارُها |
وما أنا بالواني إذا الحرب شمرّت |
* |
تُحرَّق في شطر الخميسين نارُها |
ولكنني أدعو لها خندف التي |
* |
تطلع بالعبء الثقيل فقارُها |
وما حفظت بكر هنالك حلفها |
* |
فصار عليها عار قيس وعارُها |
فإن تك بكر بالعراق تنزرت |
* |
ففي أرض مرو علها واوزرارُها |
وقد جربت يوم البروقان وقعة |
* |
لخندف إذ حانت وآن بوارُها |
أتتني لقيس في بجيلة وقعة |
* |
وقد كان قبل اليوم طال انتظارُها |
ولعل داعي الشماتة ببني بكر لتركها القيسية وتحالفها مع اليمانية، وهذا يدل على عدم ثبات الأحلاف أو مواقف القبائل في هذه الفتن، وفي الكامل في التاريخ: "عزل هشام بن عبد الملك خالد بن عبد الله وأخاه أسد عن خراسان وسبب ذلك أنَّ أسداً تعصب حتى أفسد الناس وضرب نصر بن سيّار ونفراً بالسياط وحلقهم وسيرهم إلى أخيه خالد وكتب إليه: إنهم أرادوا الوثوب بي. فلما قدموا إلى خالد لام أسداً وعنفه، وقال: "ألا بعثت إليّ برؤوسهم"([21]) فقال نصر([22]):
بَعَثْتَ بِالْعِتَابِ فِي غَيْرِ ذَنْبٍ |
* |
فِي كِتَابٍ تَلُومُ أُمُّ تَمِيمِ |
إِنْ أَكُنْ مُوَثَّقًا أَسِيرًا لَدَيْهِمْ |
* |
فِي هُمُومٍ وَكُرْبَةٍ وَسُهُومِ |
رَهْنَ قَسْرٍ فَمَا وَجَدْتُ بَلَاءً |
* |
كَإِسَارِ الْكِرَامِ عِنْدَ اللَّئِيمِ |
أَبْلِغِ الْمُدَّعِينَ قَسْرًا وَقَسْرٌ |
* |
أَهْلُ عُودِ الْقَنَاةِ ذَاتِ الْوُصُومِ |
هَلْ فُطِمْتُمْ عَنِ الْخِيَانَةِ وَالْغَدْر |
* |
أَمْ أَنْتُمْ كَالْحَاكِرِ الْمُسْتَدِيمِ |
وهو أسير لديهم ذمهم ورماهم بالجبن واللؤم والإِدعاء والخيانة والغدر والخَور وقلة العقل وسفاهة الرأي.
فوران العصبية وطغيانها يصل في أحايين كثيرة مرحلة الاقتتال، مخلفاً ما وراءها قتلى وجرحى وضغائن وأحزان لا تنتهي، فقد صرخ نصر صرخة مجلجلة عندما سقط ابنه تميم قتيلاً في الحرب التي وقعت في مرو بين اليمانية والمضربة([23]).
نفى عني العزاء وكنت جلداً |
* |
غداة جلا الفوارس عن تميم |
وما قصرت يداه عن الأعادي |
* |
ولا أضحى بمنزلة اللئيم |
وفاءً للخليفة وابتذالاً |
* |
لمهجته يدافع عن حريم |
فمن يك سائلاً عني فإني |
* |
أنا الشيخ الغضنفر ذو الكليم |
نمتني من خزيمة باذخات |
* |
بواسق ينتمين إلى صميم |
عندما بلغ نصر بن سيّار مقتل الحارث بن سريح وكان مضريّاً تسوّد، ودعا الناس فتبعه بغاة الفتنة، ويبدو أن أشياعاً من المضرية أتبعوه فقال نصر([24]):
يا مدخل الذل على قومه |
* |
بُعداً وسُحقاً لك من هالكِ |
شومك أردى مضراً كلها |
* |
وعضَّ من قومك بالحاركِ |
ما كانت الأزد وأشياعها |
* |
تطمعُ في عمروٍ ولا مالكِ |
ولا بني سعد إذا ألجموا |
* |
كلِّ طمرٍّ لونه حالكِ |
فأجابه عبّاد بن الحارث بن سريح بأبيات تنضح أيضاً بالعصبية قائلاً([25]):
أَلَّا يَا نَصْرُ قَدْ بَرِحَ الْخَفَاءُ |
* |
وَقَدْ طَالَ التَّمَنِّيَ وَالرَّجَاءُ |
وَأَصْبَحَتِ الْمَزُونُ بِأَرْضِ مَرْوٍ |
* |
تُقَضِّي فِي الْحُكُومَةِ مَا تَشَاءُ |
يَجُوزُ قَضَاؤُهَا فِي كُلِّ حُكْمٍ |
* |
عَلَى مُضَرٍ وَإِنْ جَارَ الْقَضَاءُ |
وَحِمْيَرُ فِي مَجَالِسِهَا قُعُودٌ |
* |
تَرَقْرَقُ فِي رِقَابِهِمُ الدِّمَاءُ |
فَإِنْ مُضَرٌ بِذَا رَضِيَتْ وَذَلَّتْ |
* |
فَطَالَ لَهَا الْمَذَلَّةُ وَالشَّقَاءُ |
وَإِنْ هِيَ أَعَتَبَتْ فِيهَا وَإِلَّا |
* |
فَحَلَّ عَلَى عَسَاكِرِهَا الْعَفَاءُ |
فأبيات نصر ورد عبّاد يدلان على أن الحارث قتل بواسطة اليمانيين بيد أن صاحب الشعر في خراسان يذكر إن نصراً كان يتعصب للمضريين تعصباً بائناً كما تعصب سلفه لليمانية "فاصطنع نصر المضريين واستعان بهم، ولم يستعمل في السنوات الأربع الأولى من ولايته إلا مضرياً فاستاء الأزد، فقال رجل من أهل الشام من اليمانية: ما رأيت عصبية مثل هذه. فقال نصر: بلى؛ التي قبل هذه. يعني انحياز أسد بن عبد الله القسري للأزد وأهل اليمن"([26]).
يندرج في العصبية القبلية، وإثارة النعرات والفتن؛ ما قاله نصر مفتخراً بأصله، وصفاته ومناقبه الكريمة، وطاعته وقبيلته للخليفة، وذلك في قوله في قصيدة له افتتحها بالنسيب([27]).
تعِزّ عن الصبابة لا تلامُ |
* |
كذلك لا يلم َّبك احتمامُ |
أإن سخطت كبيرة بعد قرب |
* |
كلفت بها وباشرك السقامُ |
ترجيّ اليوم ما وعدت حديثاً |
* |
وقد كذبت مواعدها الكرامُ |
ألم تر إن ما صنع الغواني |
* |
عسيرٌ لا يريع به الكلامُ |
إلى إن قال في فخره بنفسه وقبيلته شجاعة وكرم أرومة:
أبت لي طاعتي وأبى بلائي |
* |
وفوزي حين يعترك الخصامُ |
وأنا لا نضيع لنا ملماً |
* |
ولا حسباً إذا ضاع الزمامُ |
ولا نفضي على غدر وإنا |
* |
نقيم على الوفاء فلا نلامُ |
ثم يمدح الخليفة ذاكراً طاعته الواجبة وأصله ثم يختتم القصيدة مفتخراً بقبيلته مازجاً فضائلها بفضائل الأمويين وهما من أرومة واحدة.
خليفتنا الذي فازت يداه |
* |
بقدح الحمد والملك الهمامُ |
نسوسهم به ولنا عليهم |
* |
إذا قلنا مكارمه جسامُ |
أبو العاصي أبوه وعبد شمسٍ |
* |
وحرب والقماقمة الكرامُ |
ومروان أبو الخلفاء عالٍ |
* |
عليه المجد فهو له نظامُ |
وبيت خليفة الرحمن فينا |
* |
وبيتاه المقدس والحرامُ |
ونحن الأكرمون إذا نسبنا |
* |
وعرنين البرية والسنامُ |
فأمسينا لنا في كلِّ حيٍّ |
* |
خراطيم البرية والزمامُ |
لنا أيدٍ نريش بها ونبري |
* |
وأيدٍ في بوادرِها السمامُ |
وبأس في الكريهة حين نُلقي |
* |
إذا كان النذيرُ بها الحسامُ |
وغير بعيد مما سبق ما قاله مفتخراً بنفسه وشجاعته ذاكراً حساده الذين يحسدون فيه حسن بلائه، مذكراً بموقفه في يوم الشعب وقتاله الشرس ودفاعه عن الجُنَيْد([28]):
إِنِّي نَشَأْتُ وَحُسَّادِي ذَوُو عَدَدٍ |
* |
يَا ذَا الْمَعَارِجِ لَا تُنْقِصْ لَهُمْ عَدَدًا |
إِنْ تَحْسُدُونِي عَلَى مِثْلِ الْبَلَاءِ لَكُمْ |
* |
يَوْمًا فَمِثْلُ بَلَائِي جَرَّ لِي الْحَسَدَا |
يَأْبَى الْإِلَهُ الَّذِي أَعْلَى بِقُدْرَتِهِ كَعْبِي |
* |
عَلَيْكُمْ وَأَعْطَى فَوْقَكُمْ عَدَدًا |
أَرْمِي الْعُدَاةَ بِأَفْرَاسٍ مُكَلَّمَةٍ |
* |
حَتَّى اتَّخَذْنَ عَلَى حُسَّادِهِنَّ يَدَا |
مَنْ ذَا الَّذِي مِنْكُمْ فِي الشِّعْبِ إِذْ وَرَدُوا |
* |
لَمْ يَتَّخِذْ حَوْمَةَ الْأَثْقَالِ مُعْتَمَدًا |
هَلَّا شَهِدْتُمْ دِفَاعِي عَنْ جُنَيْدِكُمُ |
* |
وَقْعَ الْقَنَا وَشِهَابُ الْحَرْبِ قَدْ وُقِدَا |
وضربي التّرك عنكم يوم فرقكم |
* |
بالسّيف في الشّعب حتى جاوز السّندا |
لكن نصراً رغم ما قيل عن تعصبه للمضرية على اليمانية، وطغيان العصبية القبلية في عهده، نراه أحياناً يدعو إلى وحدة العرب، بدعوتهم أن يكونوا معاً عصبة واحدة ضد العدو الذي أحاط بهم إحاطة السوار بالمعصم متربصاً بكل العرب ولعله يقصد أنصار أبي مسلم الذين شايعوه ضد الحكم الأموي وكان أكثرهم من غير العرب([29]).
أبلغ ربيعة في مرو وإخوتهم |
* |
فليغضبوا قبل أن لا ينفع الغضب |
ولينصبوا الحرب إنّ القوم قد نصبوا |
* |
حرباً يحرّق في حافاتها الحطب |
ما بالكم تلقحون الحرب بينكم |
* |
كأنّ أهل الحجا عن رأيهم عزبوا |
وتتركون عدوّاً قد أظلّكم |
* |
ممّا تأشّب لا دين ولا حسب |
قوماً يدينون ديناً ما سمعت به |
* |
عن الرسول ولم تنزل به الكتب |
فمن يكن سائلاً عن أصل دينهم |
* |
فإنّ دينهم أن تقتل العرب |
فهذه صرخة مدوية في كل العرب أن ينبذوا الاختلافات ويتحدوا في مواجهة عدوّهم، الذي نصب الحرب وهم عنه غافلون ولا يقلع عن الحرب حتى تقتلع العرب كلهم من جذورهم ومثل هذه الأبيات التي تفصح عن حاكم لكل العرب دونما عصبية أو فيها مساواة بين المضرية واليمانية قوله([30]):
إنا وهذا الحيّ من يمن لنا |
* |
عند الفخار أعزّة أكفاء |
قوم لهم فينا دماء جمّة |
* |
ولنا لديهم أجنة ودماء |
وربيعة الأذناب فيما بيننا |
* |
لا هم لنا سلم ولا أعداء |
إن ينصرونا لا نعز بنصرهم |
* |
أو يخذلونا فالسماء سماء |
فتنة المرجئة:
نشأت فرقة المرجئة في جوٍّ شاع فيه النقاش والاختلاف حول مرتكب الكبيرة أهو مؤمن أم غير مؤمن، فقالت المرجئة "لا يضر مع الإيمان معصية كما لا ينفع مع الكفر طاعة"([31]) وقال بعضهم في أمر مرتكب الكبيرة يرجأ إلى يوم القيامة فيحكم الله فيه أي يؤخر([32]). ولعل بداية أمر هذه الفرقة تجعلها من أقدم الفِرَقِ الإسلامية؛ فبعد مقتل سيدنا عثمان بن عفان رضي الله عنه- ساد الشك لدى كثير من الغزاة الفاتحين الذين قدموا المدينة، فقالوا للناس تركناكم وأمركم واحد ليس بينكم خلاف، وقدمنا إليكم وأنتم مختلفون؛ فبعضكم يقول، قتل عثمان مظلوماً وكان وأصحابه أولى بالعدل، وبعضكم يقول: عليّ أولى بالحق وأصحابه، كلاهما ثقة وعندنا مصدق لا نتبرأ منهما ولا نلعنهما، ولا نشهد بينهما ونرجئ أمرهما إلى الله حتى يكون هو الذي يحكم بينهما([33]).
وقد بيَّن الشاعر ثابت قطفة مبادئ المرجئة وما يعتقدونه في قصيدة له منها([34]):
يا هِنْد فاستمعي لي إن سيرتنا |
* |
أن نعبد الله لا نشرك بِهِ أحدا |
نرجي الأمور إذا كانت مشبهة |
* |
ونصدق القول فِيمن جَار أو عندا |
المُسلمُون على الإسلام كلهم |
* |
والمُشْرِكُونَ أشتوا دينهم قددا |
ولا أرى إن ذنباً بالغ أحداً |
* |
م النَّاس شركا إذا ما وحدوا الصمدا |
لا نسفك الدَّم إلا أن يُراد بِنَا |
* |
سفك الدِّمَاء طَرِيقاً وأحِداً جددا |
وهذا قولهم في الإرجاء، وإن الإيمان هو الأصل، لا يضر معه معصية، وأنهم لا يقاتلون إلاَّ دفاعاً عن النفس. ثم يواصل ثابت في قصيدته في تعرضه للخوارج وتخطئتهم في تكفيرهم لمرتكب الكبيرة، والفتنة الكبرى ومقتل سيدنا عثمان والحرب بين أصحابه وأنصار الإمام علي بن أبي طالب:
من يتق الله في الدُّنْيا فإنه لَهُ |
* |
أجر التقي إذا وفّْى الحساب غدا |
ومَا قضى الله من أمر فليْسَ له |
* |
رد وما يقضِ من شيء يكن رشدا |
كل الخَوَارج مخطٍ في مقالته |
* |
ولوتعبد فِيمَا قَالَ واجتهدا |
أما عليّ وعُثْمان فإنَهما |
* |
عبدان لم يشركا بالله مذ عبدا |
وكانَ بَينهمَا شغب وقد شَهدا |
* |
شقّ العَصَا وبعين الله مَا شَهدا |
يجزي عليّ وعُثْمان بسعيهما |
* |
ولست أدْرِي بِحَق آيّة وردا |
الله يعلم مَاذَا يحْضَرانِ بِهِ |
* |
وكلّ عبد سيلقي الله مُنْفَردا |
أما نصر بن سيّار فقد استغل خروج الحارث بن سريح عندما سود رأياته. كما سبق في الحديث عن العصبية القبلية- وأقبل إلى مرو وكان يرى رأي المرجئة. فانشأ قصيدته النونية مفنداً فيها آراء واعتقادات المرجئة داعياً الناس إلى الابتعاد عنها وهدفه تخذيل الناس من اتباع الحارث، حيث افتتح قصيدته بالتزهيد في الدنيا والإقبال على الآخرة بالتقرب إلى الله تعالى والابتعاد عن أصحاب الضلالات كالمرجئة وذلك قوله([35]):
دع عنك دنيا وأهلاً أنت تاركهم |
* |
ما خير دنيا وأهل لا يدومونا |
إلاّ بقية أيام إلى أجلٍ |
* |
فأطلب من الله آهلاً لا يموتونا |
واكثر تقى الله في الإسرار مجتهداً |
* |
إن التقى خيره ما كان مكنونا |
وأعلم بأنك بالأعمال مرتهن |
* |
فكن لذاك كثير الهمِّ محزونا |
إلى أن يقول في التزهيد والتذكير بتقلبات الدنيا وتحولها:
إني أرى الغبن المردي بصاحبه |
* |
من كان في هذه الأيام مغبونا |
تكون للمرء أطواراً فتمنحه |
* |
يوما عثاراً وطوراً تمنح اللينا |
بينا الفتى في نعيم العيش حوَّله |
* |
دهر فأمسى به عن ذاك مزبونا |
تحلو له مرة حتى يسر بها |
* |
حيناً وتمقره طعماً آحايينا |
هل غابر من بقايا الدهر تنظره |
* |
إلا كما قد مضى فيما تقضونا |
ثم بعد هذه الأبيات التزهيدية ينتقل حاثاً إلى جهاد هؤلاء الذين لا يرجون الآخرة بأعمالهم ومنها الفرائض كالصلاة إشارة إلى قول المرجئة لا تضر مع الإيمان معصية، وليمتد هذا القتل إلى مواليهم ومناصريهم، وهم من يعيبون ما يدين به الكافة وهم لا دين لهم، ويدعون أن أمرهم كله لله وسبيله كذباً ونفاقاً لأنهم أبعد ما يكونون عن سبيل الله، لذا فإن قتلهم واجب تقرباً إلى الله:
فامنح جهادك من لم يرج آخرة |
* |
وكن عدواً لقوم لا يصلونا |
وأقتل مواليهم منا وناصرهم |
* |
حينا تكفرهم والعنهم حينا |
والعائبين علينا ديننا وهم |
* |
شر العباد إذا خابرتهم دينا |
والقائلين سبيل الله بغيتنا |
* |
لبعد ما نكبوا عما يقولونا |
فاقتلهم غضباً لله منتصرا
|
* |
منهم به ودع المرتاب مفتونا |
إلى أن يقول مصرحاً باسمهم (المرجئة) وبعض تعاليمهم
إرجاؤكم لزكم والشرك في قرن |
* |
فأنتم أهل إشراك ومرجونا |
لا يبعد الله في الأجداث غيركم |
* |
إذ كان دينكم بالشِّرك مقرونا |
ألقى به الله رعباً في نحوركم |
* |
والله يقضي لنا الحسنى ويعلينا |
كيما نكون الموالي عند خائقة |
* |
عمّا تروم به الإسلام والدينا |
وهل تعيبون منا كاذبين به |
* |
غالٍ ومهتضمٌ حسبي الذي فينا |
يأبى الذي كان يبلي الله أولّكم |
* |
على النِّفاق وما قد كان يبلينا |
فنصر هاجم المرجئة في شخصية الحارث ورمى اتباعه بالخروج عن الدين وفند آراء المرجئة في إرجاء الأمور إلى يوم القيامة، وعدم قرن الإيمان بالعمل، فهم بذلك قرناء الكفرة والمشركين وأصحاب النفاق فجِهادهم واجب والله متكفل بتغليب عباده ونصرهم عليهم.
الثورة العباسية:
الفتن القبلية التي تمحورت في الصراع بين اليمانية والمضرية بشكل أساس في خراسان- كما رأينا ذلك في أشعار نصر بن سيّار- ثم حديث نصر عن المرجئة وقدوم الحارث إلى مرو، ما هي إلاّ إرهاصات ومقدمات لفتنة كبرى، بدأت في خراسان، واشتد أوارها بها، وما لبث أن عمت كل بلاد الإسلام في ثورة لا تبقي ولا تذر، حققت هدفها بإسقاط دولة بني أمية وإقامة دولة بني العباس محلها. ولعلّ مترجمي نصر بن سيّار وناقلي أخباره وحكاياته؛ لم يغفلوا ذلك الأمر فربطوا بين عهده في خراسان وقيام الثورة العباسية بها تحت قيادة أبي مسلم الخراساني: ففي سير أعلام النبلاء: "خرج عليه أبو مسلم- صاحب الدعوة- فحاربه فعجز عنه نصر واستصرخ مروان غير مرّة فبعد عن نجدته، واشتغل باختلال أمر اذربيجان والجزيرة فتقهقر نصر"([36]). وفي وفيات الأعيان: "وكان يوسف بن عمر قد استعمل على خراسان نصر بن سيّار الليثي وبقى إلى أواخر أيام بني أمية، وقضاياه ووقائعه مع أبي مسلم مشهورة"([37]). من البداهة أن لا تغفل أشعار نصر بن سيّار في هذه الفتنة التي أودت بولايته والخلافة الأموية التي طالما أعتزَّ بها، وقد سبق في الحديث عن فتنة المرجئة إن نصراً أنشأ قصيدة كاملة الهدف من ورائها تفنيد آراء المرجئة عندما خرج عليه الحارث بن سريح الذي كان يرى رأي المرجئة مسوداً راياته. ولعل تسويد الرايات دلالة على الثورة العباسية برفع شعارها، إلاّ أن نصراً ركز بغية التنفير على آراء القائد الدينية، أو ربما لخطر المرجئة وعقيدتهم في ذاك الوقت. ويبدو أن أمر دعاة بني العباس والذين اتبعوهم من الخراسانيين ومعظمهم من غير العرب أضحى أمراً جليّ في صرخة نصر في قومه العرب الذين أضعفتهم العصبية، وداستهم الفتن بين اليمانية والمضرية فنراه في أبيات له سبقت في ثنايا هذه الورقة، يدعو لرتق ما انفتق بين العرب، بأن يتركوا العصبيات ويجابهوا عدوهم المشترك، الذي لا ينام له جفن إلا بفناء كافة العرب.
أبلغ ربيعة في مرو وأخوتهم |
* |
فليغضبوا قبل أن لا ينفع الغضبُ |
ولينصبوا الحرب إن القوم قد نصبوا |
* |
حرباً يحرِّق في حافاتها الحطبُ |
ما بالكم تلقحون الحرب بينكم |
* |
كأن أهل الحجا عن رأيهم عزبوا |
وتتركون عدوّاً قد أظّلكم |
* |
ممّن تأشّب لا دين ولا حسبُ |
قوم يدينون ديناً ما سمعت به |
* |
عن الرسول ولم تنزل به الكتبُ |
فمن يكن سائلاً عن أصل دينهم |
* |
فإنّ دينهم أن تقتل العربُ([38]) |
ولا شك أن صرخة نصر في العرب هذه أتت متأخرة جداً وفي وفيات الأعيان كتب نصر إلى مروان([39]):
أرى جذعاً وإن يئن لم يقو ريضٌ |
* |
عليه فبادر قبل أن يثني الجذع |
وكان دائم الكتابة إلى الوالي بالعراق والخليفة بدمشق طالباً المدد والذي كان متعذراً لانفراط عقد الدولة التي بدت بوادر انهيارها "فاستمد نصر يزيد بن عمر بن هُبيرة والي العراق ووصف له في أبيات من شعره ما شاع بخراسان من اضطراب خلال ما انصرم من عامين وحذره من خطورة الأمر وإن ذلك ينذر بعاقبة وخيمة إذا استمر التدهور ولم يوقف بمعالجة حكيمة حازمة"([40]) وذلك في قوله([41]):
أبلغ يزيد وخيْرُ القول أصدقه |
* |
وقد تبينت ألاّ خير في الكذبِ |
إن خراسان أرض قد رأيت بها |
* |
بيضاً لو افرخ قد حدثت بالعجبِ |
فراخ عامين إلا أنها كبرت |
* |
لمَّا يطرن وقد سربلن بالزغبِ |
فإن يطرن ولم يحتل لهن بها |
* |
يلهبن نيران حرب أيما لهبِ |
وصف بليغ للثورة العباسية التي اشتَّد أوارها وقوى ساعدها في خراسان، والذي حسبها أولى الأمر نائية فانشغلوا بغيرها من الفتن في أواسط الدولة، كما تدل الأبيات على رأي حازم إن الدعوة العباسية ينبغي أن تخمد قبل أن يستفحل أمرها ويستشري خارج خراسان ولا تزال استنجادات نصر تترى إلى والي العراق والخليفة ومن ذلك أبياته الشهيرة والتي تروى روايات مختلفة([42]).
أرى خِللَ الرَّمادِ وميضَ نارٍ |
* |
ويوشكُ أنَّ يكون لها ضِرامُ |
فإن النار بالعودين تُذكى |
* |
وإن الحربَ أولهُا كلامُ |
فإن لم يطفها عُقلاءُ قومٍ |
* |
يكُونُ وقودها جُثثٌ وَهَامُ |
أقولُ من التَّعجُّب ليتَ شِعري |
* |
أأيقاظٌ أميةُ أم نيامُ |
فإنْ يكُ قَومناَ أضحوا نياماً |
* |
فقل قُومُوا فَقَد حَان القيامُ |
تعَزي عَنْ رِجالِكِ ثُّمَ قولِي |
* |
على الإسلامِ والعَربِ السلامً |
تروى هذه الأبيات بروايات مختلفة الألفاظ لذات المعنى، وقد وصفت الحالة بخراسان وازدياد شأو أبي مسلم وأنصاره، بل تعداها إلى التنبؤ بما يصير إليه الأمر، ولا عجب في الأمر فقد كتب نصر هذه الأبيات وهو منهزم مُولٍ وجهه شطر العراق متقهقراً، وما كاد يبلغها حتى مات كمداً في الطريق إليها كما سبق عند الحديث عن وفاته. وقد أجاد التصوير للأحداث بما حملها من صور بيانية رائعة، ولعل نصراً لم ييأس من المدد المنتظر من الوالي والخليفة فلا يفتأ كاتباً إليهما بذلك، ولم ينقطع رجاؤه وهو منهزم متراجعٌ نحو العراق. وهو تمنٍ في الحقيقة لا يمكن حدوثه. ففي الروض المعطار: "وكان لمَّا صار بين الري وخراسان، كتب كتاباً إلى مروان يذكر فيه خروجه عن خراسان، وإن هذا الأمر الذي ازعجه سيزداد خطره حتى يملأ البلاد وضمن ذلك شعراً([43]):
إنا وما نكتم من أمرنا |
* |
كالثور إذا قرب الباخع |
أو كالتي يحسبها أهلها |
* |
عذراء بكراً وهي في التاسع |
كنا نداريها وقد مُزقت |
* |
واتسع الخرق على الراقع |
كالثوب إذا أنهج فيه البلى |
* |
أعيا على ذي الحيلة الصانع |
فالأبيات دلالاتها قوية جداً تشير إلى مداراة أمور كان يعلمها ومصانعته لهزيمة أبي مسلم ومن شايعه، ولكن الأمر قد بلغ سيله الزبى، وتجاوز حدَّه وهناك من روى بيتين زائدين على هذه الأبيات وهما([44]):
من مبلغ عني الإمام الذي |
* |
قام بأمر بيٍّن ساطع |
إني نذير لك من دولة |
* |
قام بها ذو رحم قاطع |
فالبيتان ـــ دلالتهماـــــ ربما منحولان على نصر بن سيّار لأنه لم يعترف بالثورة العباسية- علم بها أم لم يعلم- ففي أبياته السابقة كلَّها لم يصف أتباع الثورة وقادتها، إلا بأوصاف تحط من شأنهم فهم أوشاب لا دين ولا حسب لهم وهدفهم قتل العرب واقتلاع الإسلام... الخ.
أشعار نصر في الثورة العباسية، كان يذيَّل أغلبها كتبه إلى الخليفة والوالي إبلاغاً لهما عن واقع الحال، وطلباً للنجدة حتى يجابه بها أبا مسلم وأنصاره، وهي مليئة بالتصاوير الفنية التي جسد بها الثورة العباسية وصفاً، وما كان يعانيه في سبيل درئها، إلا أنها- وقد صدقت تنبوءاته التحذيرية- قد غلبته وفشا أمرها، إذ لم ينفع معها تحذير الناس بل تهديدهم بالوعيد وتخويفهم في عدم الانضمام إليها، كما لم يجد الطرق على الدين ووصف الثائرين بأنهم مشركون وكفرة تارة، وبأنهم لا دين لهم وهدفهم أن تقتل العرب وبالتالي اقتلاع الإسلام تارة أخرى. ويتضح من أشعاره أنه كان ملماً بتفاصيل ما يفعل أبو مسلم وجماعته من خلال تحذيره للوالي والخليفة، واعترافه بأنه كان يكتم بعض التفاصيل عنهم ومداراة الأمر حتى برح الخفاء؛ وصار الأمر واقعاً، بل تحقق كل ما تنبأ به. كل ذلك يدل على متابعته الدقيقة لأمر أبي مسلم الخراساني وشيعته الذين أحسنوا اختيار خراسان أولاً لمبدأ زحفهم وانشغال أولي الأمر بالفتن الأخرى في العراق وأذربيجان، وإلهاء القبائل العربية بقتال بعضها بعيداً عن المكوِّن الأساس لجماعة أبي مسلم- الموالي- ولعل ضرب القبائل العربية ببعضها سياسة قديمة اتبعها الأمويون في قمع الفتن والثورات السابقة، لأن المكوِّن العربي كان طاغياً على غيره.
الخاتمة:
شارك والي خراسان لأواخر العهد الأموي- نصر بن سيّار- بأشعاره في الفتن التي اشتعلت بولايته خراسان، لقربه منها ومشاركته الفاعلة فيها كعامل في إخمادها أو إذكاء أوارها. وتمثلت الفتن في فتن العصبية بين القبائل العربية، وفتنة المرجئة ثم الثورة العباسية بجانب مشاركته بإصدار الأحكام والمقارعة بالسلاح. خلصت الورقة إلى نتائج تمثلت في:
أولاً: ظهرت من أشعار نصر السياسية أن الفتن التي ضربت خراسان كانت متداخلة قبلية أكانت أم دينية أم سياسية، أدت مجتمعة إلى إضعاف الدولة وقيام الثورة العباسية التي وضعت حدَّاً للحكم الأموي، ولم تكن كل هذه الفتن إلا إرهاصاً لقيام الثورة العباسية.
ثانياً: شعر نصر في العصبيات القبلية- كما هو متوقع- جاء انحيازاً للمضرية على اليمانية، خلا أبيات له في إنصاف حيّ من اليمن وأبيات أخرى دعا فيها إلى اتحاد القبائل العربية ونبذ الفرقة والتعصب بين القبائل العربية، والتوجه جميعاً لحرب عدو العرب المشترك الذي نصب الحرب واستعد جيداً لخوضها، ويبدو أن هذه الأشعار قالها بأخرة من أيامه عندما استفحل أمر أبي مسلم الخراساني وشيعته.
ثالثاً: اتسمت أشعار نصر التي قالها أخيراً- خاصة وهو منهزم مُولٍّ وجه شطر العراق- بالتحذير من الثورة العباسية وأنها سوف تنتشر من خراسان إلى ربوع الخلافة الإسلامية كلها وهي مليئة بالتصاوير الفنية، طالباً النجدة وتدارك الأمر بشتى السبل، وأنه كان يحاول ذلك بكتمان الأمر أحياناً والمداراة أحايين أخرى إلا أن الأمر أعجزه وتجاوز حدَّه.
رابعاً: اتسمت أشعار نصر بصدق تصوير ثورة أبي مسلم وصدقت تنبؤاته عنها مستقبلاً.
المصدر أو المرجع:
([1]) الدارقطني(أبو الحسن علي بن عمر)، المؤتلف والمختلف،تحقيق موفق بن عبدالله بن عبدالقادر،دار الغرب الإسلامي ــبيروت،ط1 1406ه ـــ1986م، 1/494.
([2]) الجاحظ (أبوعثٍمان عمرو بن بحر )، البيان والتبيين، دار ومكتبة الهلال ـــ بيروت 1423ه ،1/62.
([3]) المصدر نفسه، الصحفة نفسها.
([4]) ابن خلِّكان(أبوالعباس شمس الدين أحمد بن محمد)، وفيات الأعيان وأنباء أبناء الزمان،تحقيق إحسان عباس،دارصادر ــ بيروت، ط1 1970م، 4/187.
([5]) المرجع نفسه 7/108.
([6])القضاعي الكلبي ( أبو الحجاج يوسف بن عبدالرحمن) تهذيب الكمال في أسماء الرجال ،تحقيق بشار عواد معروف ،موسسة الرسالة ــ بيروت، ط1 1400ه ـــ1980م، 2/510.
([7]) الذهبي (أبو عبدالله شمس الدين محمدبن أحمد)، سير أعلام النبلاء، دار الحديث ــــالقاهرة، ط1427ﻫ ــ 2006م 6/56.
([8]) ابن قتيبة(أبو محمد عبدالله بن مسلم)، الشعر والشعراء ، دار الحديث ـــ القاهرة 1423ه،1/76.
([9]) الدار قطني، مصدر سابق، 1/494.
([10]) المصدر ذاته 4/2205.
([11]) الذهبي، سير أعلام النبلاء، مصدر سابق، 6/174.
([12]) الرازي(منصور بن الحسين )، نثر الدرر في المحاضرات ،تحقيق خالد عبد الغني محفوظ، دار الكتب العلمية - بيروت - لبنان، ط11424ﻫ -2004م ،4/146.
([13]) ابن قتيبة (أبومحمد عبدالله بن مسلم) ، عيون الأخيار، دار الكتب العلمية -بيروت 1423ﻫ، ، 1/210.
([14]) الثعالبي(أبومنصور عبدالملك)، الإعجاز والإيجاز ، مكتبة القرآن -القاهرة ، ص 82.
([15]) الجاحظ، البيان والتبييين، مصدر سابق ج 146.
([16]) الثعالبي (أبومنصور عبدالملك بن محمد)، ثمارالقلوب في المضاف والمنسوب ، دارالمعارف ــ القاهرة ص 382.
([17]) الذهبي، سير أعلام النبلاء، مصدر سابق ط الحديث 6/174.
([18]) أبو عبدالله محمد بن عبدالله بن عبد المنعم الحميري، الروض المعطار في أخبار الأقطار، تحقيق إحسان عباس، موسسة دار ناصر الثقافية - بيروت،ط2 1980م/ص297
([19]) إحسان النص، العصبية القبلية وأثرها في الشعر الأموي، دار الفكر 1972، ط2، ص 35.
([20]) حسين عطوان، الشعر في خراسان من الفتح حتى نهاية العصر الأموي،دار الجيل(د.ت)ط2 1409 ه -1989م، ص 105.
([21]) ابن الأثير، الكامل في التاريخ، ج ص 184.
([22]) المصدر نفسه، الصفحة نفسها.
([23]) حسين عطوان، الشعر في خراسان من الفتح حتى نهاية دولة بني أمية ص 205.
([24]) ابن الأثير ، الكامل في التاريح سابق 4/350.
([25]) ابن كثير(أبو الفداء إسماعيل بن عمر)، البداية والنهاية ،تحقيق علي شيري،إحياء التراث العربي د.م ’ط1 1408 - 1988م ،10/ 36.
([26]) حسين عطوان، الشعر في خراسان من الفتح حتى نهاية عهد بني أمية ص 112.
([27]) الطبري(محمد بن جرير) تاريخ الطبري وصلة تاريخ الطبري ، دارالتراث ــبيروت،ط2 1387ه،7 /338.
([28]) ابن الأثير، الكامل في التاريخ مصدر سابق 4/206.
([29]) ابن عبد ربه، (أبوعمرو شهاب الدين أحمد بن محمد)، العقد الفريد ، دار الكتب العلمية ــ بيروت، ط1 1404ه، 5/221.
([30]) ابن عبد ربه، العقد الفريد 3/283.
([31]) مصطفى بن محمد بن مصطفى، أصول وتاريخ الفرق الإسلامية 1424هـ- 2003م ص (142- 147).
([32]) نفس المرجع 142- 147.
([33]) الشهرستاني، أبو الفتح محمد بن عبد الكريم، الملل والنحل تحقيق أحمد محمد فهمي، دار الكتب العلمية، 1992م، ص 497- 502.
([34]) الصفدي (صلاح الدين خليل بن أيبك ) ، الشعور بالعور ، ت عبد الرازق حسين، دار غمار عمان الأردن، 1988م، ص 124.
([35]) الطبري، تاريخ الرسل والملوك، وصلة تاريخ الطبري، مصدر سابق، 7/111.
([36]) الذهبي، سير أعلام النبلاء، مرجع سابق، 6/56.
([37]) ابن خلِّكان، وفيات الأعيان وأنباء أبناء الزمان، مرجع سابق، 7/108.
([38]) ابن عبد ربه، العقد الفريد،5/221
([39]) ابن خلكان، وفيات الأعيان، سابق 3/149.
([40]) حسين عطوان، الشعر في خراسان من الفتح حتى نهاية العهد الأموي، ص 123.
([41]) المرجع ذاته الصحفة ذاتها.
([42]) العصامي( عبدالملك بن حسين بن عبدالملك)’ سمط النجوم اللآلئ في أنباء الأوائل التوالي، تحقيق عادل أحمد عبد الموجود ،علي محمد معوض، دار الكتب العلمية ــ بيروت،ط1 1419ه ــ1998م، 3/343.
([43]) عبدالمنعم الحميري، الروض المعطار في حيز الأقطار ص 199.
([44]) ابن العمراني(محمد بن علي)، الإنباء في تاريخ الخلفاء، تحقيق قاسم السامرائي دار الآفااق العربية - القاهرة ،ط1 1421ﻫ - 2001م /ص 57.